كتب بواسطة: كتابات أبو الحق.
ربما
كان منظر ثورة الناس على القوى الغاشمة في أي بقعة بالعالم هو أجمل ما
بملك الإنسان أن يرسمه على وجه هذه الحياة ،كألوان البراكين الثائرة ومناظر
الحمم التي تسيل كصهير الذهب .." . إنها قيامة صغرى تتحقق ، وهي العدالة
التي تتوق إليها الأنفس دوماً كونها هاجس المحكومين الرئيسي والذي يتفوق
بأهميته على سعة العيش ، لن يتحقق أياً من الإثنين على وجه الأرض في هذه
الحياة دون أدنى شك لكن البعض منهما بحد ذاته هو أروع من الرائع لو تحقق . لكن
للأسف فالعراقيون تعاملوا بمنتهى الحول فيما يخص هاتين النقطتين، مع عهدين
محددين : أولهما هو عهد الملكية ذاك والثاني هو عهد الخونة السرّاق
المخربين الساقطين القتلة هؤلاء .. بعض مما يليق بأدناهم جرماً !
فبدلاً
من أن يبادر العراقيون للإحتجاج السلمي ضد الملكية ورئيس وزرائها قبل سبعة
وخمسين عاماً ، وبدلاً من أن يبتدئوا إنتفاضتهم الحالية ( ضد المالكي وحزب
الدعوة وكل الطاقم الحكومي والبرلماني ) برفع المشانق وإشهار السواطير،
فقد فعلوا النقيض في كل حالة وتبادلت الإجراءات محلاتها ! لقد
أقنع هؤلاء السفلة عامة الناس على مدى الإثني عشر عاماً الفائتة بأنّ
التظاهر مقبول إن كان سلمياً لكنه جريمة إن أصبح ثورة عارمة ترد على الشرطي
المجرم بالنار ، وذلك كي يصار لتحجيم كل إنتفاضة وكي يتم تقليم أظافر
الناس مقدماً وكي يتم ضمان فشل كل الإحتجاجات منذ البداية .
ومقابل
ذلك فقد تركز تدريب الشرطة وقوات سوات والجيش كذلك ومنذ 2003 وقت تولت
الأردن تدريب زمرة المجرمين هذه وسبقتهم جمهورية التشيك قبل 2003 ،على قتل
المتظاهرين وتحطيمهم بكل شكل ممكن، بدل تدريب الشرطة والجيش على مجابهة
الخطر الخارجي لذلك لم تخرج ممارسات أجهزة الأمن الإرهابية العراقية طيلة
هذه السنوات عن التنكيل بكل من يتظاهر : تصوير المتظاهرين وتحديد القيادات
والطلائع ومن ثم إقتناصهم على الطريق أو من عقر دورهم ، أما
جيوش الحسين والعباس وفاطمة ومن لف لفها من مجاميع رصد إلكترونية شيعية
العناوين فتلك تترصد مواقع التواصل الإجتماعي لتؤدي دورها : لقد جيّش
المالكي كل الشيعة تقريباً مستخدماً ما نهبه من خزانة العراق فكل ضابط وكل
موظف وكل طالب وكل مراهق يتقن الطبع على الكيبورد، لهم كلهم عنوان بريد
إلكتروني وحساب مقابل على الفيسبووك يمارسون من خلاله الإبلاغ عن كل منشور
يفضح دولة القانون ويمثل دليلاً جرمياً ضدهم كي يصار لشطبه، ويسجلون عناوين
من يعلقون بالسلب ضدهم كي يصار لاصطيادهم عقبها . اليوم خرجت طلائع الزمرة
الإجرامية الملقبة ب(أبطال العراق) وهاجموا خيمة إعتصام في البصرة معتدين
بالضرب على من فيها وصادروا تلفوناتهم وهوياتهم . ما عجزوا عن فعله في
الرمادي فعلوه مع هؤلاء الشيعة من أبناء جلدتهم ، والطموح هو تكرار مذبحة
الحويجة دون شك .. و" أبطال العراق" هؤلاء هم نفسهم (عصائب الحق) فحزب
الدعوة يحكم العراق بالنيابة عن إيران وذراعه الضاربة هم عصائب الخزعلي
هؤلاء وقد إستلزم الأمر هذه المرة أن يرتدوا عباءة تنكرية جديدة كي لا يصار
لمحاسبتهم في بغداد .
ماذا يعكس لنا مشهد العراق اليوم ؟ إنه يعكس صمتاً و ثورةً وإنقلاباً في نفس الوقت ...
*
أما الصمت فهو صمت أميركا وكل الدول الصليبية التي تجحفلت معها في التسعين
وفي 2003 وفي كل مرة مقبلة واليوم هي صامتة لا صوت لها لأن مصالحها مهددة
بأي تغيير ، والعقود النفطية وغير النفطية كعقود التسليح التي تنهب ميزانية
كل سنة نهباً ولا تبقي أي شيء للإعمار والعلاج والتعليم وغير ذلك . هذه
العقود التي تترقب دول الغرب توقيعها تتطلب ليس الصمت فحسب بل تتطلب تمنى
فشل التظاهرات والعمل من أجل ذلك حتى ..
*
وأما الثورة فهي ثورة الحكومة بمجملها على شعب هو نفسه من إنتخب وهو نفسه
من وافق على الدستور لكنه اليوم "ينقلب" على نفسه وعلى حكومته (فهو
الإنقلاب المذكور أعلاه إذن)! ألم يقل علي بن أبي طالب أنه مأمور بمقاتلة
"الناكثين والمارقين" وصنف آخر هداه إليه شيطانه وقتها ولا أذكره هذه
اللحظة ؟ ألم يبرر قتله لطلحة والزبير بأنهما ( إنقلبا عليه)؟ ألم يمارس
إبادة جماعية بحق الخوارج لأنهم تنبهوا لزلته الكبيرة في التحكيم واختاروا
ألا يمنحوه المزيد من الفرص ، وهو الرأي الصحيح دون شك ؟ أنت لا تستطيع أن
تحاكم الحاضر فيما الماضي يعيش مقلوباً داخلك ! ما لم تخلع ولاءك لعلي بن
أبي طالب، ذاك الولاء المتأسّس على باطل تام ،فأنت ستكرر نفس الخطأ ، وسترى
أن الماضي ذاك يرتد عليك ويكفّرك كلما حاولت أن تكسر القيد في حاضرك !
إنّ
من قال :"بعد ما ننطيهه" قبل سنين كان يعبر بالطويرجاوية المعجمة عن معاني
" هي مني بمحل القطب من الرحى"! ألا ترون ؟ ألم تفهموها ؟ إنه نفس الهوس
المتشبث بكرسي الحكم لكن بعبارات أخرى.. الحاكم ليس إلهاً ، ولا حتى
إنساناً كغيره، أستثني عمراً وأبا بكر بالذات ، الحاكم هو مقاول ينفذ مهمة
كبيرة ويقتطع حصته أضعافاً مضاعفة قبل أن يشرع بالمهمة التي سيفشل في
الكثير منها ولن يحاسب نفسه عليها ولا أهله وهم يتخذون عباد الله خولاً
ومال الله دولاً ودين الله دخلا (أليس هذا هو ما شهدناه طيلة تلك القرون
ومع كل هذه الأنظمة التي تعاقبت علينا منذ عشرينات القرن السابق؟) .. وهو
لن ينصاع لجدول زمني ولن يلتزم بعهد تعهد به ولا بوعد وعد الناس به، ولن
يرتضي حتى مجرد "تصوّر" أن هناك من هو أفضل منه ، لن يستمع لنصيحة ولن
يتقبل نقداً ولن يرتضي غير قطع الرقاب لكل من يفكر بتصويب مسيرته وسيلبّس
على كل معارض بأنه ( خائن) كي يوافقه الجميع ويقتلوه بسيف واحد كلهم ممسك
بقبضته ! الحاكم هو إنسان يتميز عن غيره بأنه يستسهل القتل ويمضي بخط يده
شخابيطاً يسمونها "تواقيع" تقود لإنهاء حياة أناس لم يرهم ولا حاكمهم ولا
فهم ما هي تهمتهم الحقيقية أبداً، فالقضاء كان فاسداً منذ قرون لذا لا يمكن
الوثوق بحكم أي قاضي ، والشرطة هم ( نظير العاهرة) في كل زمن، "إذا سقطت المرأة أصبحت عاهرة وإذا سقط الرجل أصبح شرطياً"
لذا لا يمكن تصديق الإتهامات التي يرفعونها للقضاء ولا الإعترافات التي
يحصلون عليها من ضحاياهم بالتعذيب وبكسر الشرف.. الحاكم قاتل والقاضي قواد
والشرطي سافل ،إفهمها كيفما تشاء لكن لا تقل لي أنك بريء مما يفعل عندما
تكون أنت "صوتاً" ساهم بفوزه بالإنتخابات فجلب معه القاضي، المحمود أو
غيره، والشرطي ،الأسدي أو صولاغ أو غيرهما ! أنت مصدر كل بلاء أيها العراقي
الجاهل، المتعصب، الطائفي، الشوفيني، المنقاد كالبهيمة في كل طربكَة !
لحد
اللحظة هذه والتظاهرات لم تعد على المتظاهرين إلا بالعقوبات : قتل وإعتقال
وإهانات ورش بخراطيم المياه ومصادرة مستمسكات وتحت مرأى نفس الشرطة
العاهرة ! وما خفي كان أعظم . والسبب المرجح لهذه المعادلة غير المتوازنة
هو أنّ المتظاهرين لا يطلبون برأس المجرم الخائن المتسبب بمقاتل بلغت مئات
الآلاف ، يطالبون برحيله، هو والسارق الذي يفترض بهم الإصرار على بتر كفيه
لا "مساومته" كما تقول اللافتة : "إرحل ، يكفيك ما سرقت" ! أنت إن طالبت
بالإقالة أصروا على عدم إقالته فهم جوقة كلاب متفقة فيما بينها ، أقصى ما
سيفعلونه هو تحويله لمنصب آخر والإتيان بخنزير آخر مثله لتعاد نفس الدورة
تلك.. وأنت إن طالبت بإيداع السارق وراء القضبان أخرج لك أثقال حساباته
لعله يظفر بحريته ويخرج ليستمتع بما أخفاه هناك وما تركه ليربو ويتكاثر
بحسابات بنوك الأجانب تلك .
لا
أرى إلا أنّ الحكومة وقوات الأمن هي من تثور اليوم على المتظاهرين "عديمي
المشاعر" هؤلاء : ألا يريد هؤلاء المتظاهرين لمن إنتخبوهم أن يعمروا جيوبهم
ويرسلوا أولادهم وبناتهم لبلدان الغرب والشرق؟ ألا يتفهمون أنّ من يسكن
بقصر من قصور صدام حسين لا تليق بأولاده وبزوجته المصون إلا سيارات النخبة
وسفرات النخبة وأثاث النخبة وطعام النخبة نزولاً لتواليتات النخبة ؟ هل
يستكثرون عليهم أن يستمتعوا بمردودات نقدية ومعنوية ، هؤلاء (الساده ولد
الساده أحفاد الساده) بينما المتظاهرون أنفسهم يعتقدون بحق الخمس كل
الإعتقاد، ويؤمنون بأن الله تعالى قد خلق عائلة دمها أزرق لها حق الحكم
والتحكم وتجبى إليها نسبة 20% من كل مردود نقدي أو عيني ؟ حتى لو ظهر في
أرض الشيعي منهم بئر نفط أو كنز ذهب مدفون فهو ملزم بدفع خمس قيمته
للمرجعية !
هل
يريدون حاكماً كأبي بكر أو عمر ؟ ألا ساء ما يعتقدون !! كيف وأدمغة
المتظاهرين موسوم عليها منذ الولادة أنّ الأول قد " أخذ الخلافة دون حق "
كما يردد المعممون منذ ثلاثة عشر قرناً من الزمان؟ كيف والثاني "كسر ضلع
الزهره" كما يقول المجلسي السفلسي وغيره من العناوين الأعجمية ، فاستحق
غضبة الناس أجمعين ؟ يبدو أن العراقيين محكومون بالعودة لنظام الوراثة إذن :
علي يسلمها لحسن وحسن يسلمها لحسين وحسين يعطيها لعلي زين العابدين وهكذا،
حتى وصلت لمهمود الشيب الخميني في نهاية المطاف ثم لإبن السافلة خامنئي
وهو أصلاً غير منتمٍ للفيفا تلك ولا يجيد إرتداء الفانيلة والشورت ؟!
في
حالة كما مع العراق حالياً، حيث الشعب متورط بجريمة الفكر والإعتقاد كما
أن حكومته متورطة بجريمة إستغلاله وكبته وأكل حقوقه ، جريمة الشعب لها نطاق
مغلق يدور حول الماضي وحول العصمة التي تنتقل وراثياً كالسفلس، نطاق أبدي
كما يبدو ، يبقيه أسير إقطاع من نوع فكري ووجداني هو أقبح وأخطر بكثير من
إقطاع الأرض ، في هكذا حال فإن الثورة ينبغي لها أن تتماس مع كل مواضع
النخر وبدءاً من المسبب الرئيسي والأقدم زمنياً . ما لم تبتدئ الثورة
بالتراث والموروث فهي لن تبلغ عشر مداها، ولن تخرج عن كونها مطالبات
بإصلاحات في مساومات لا تنتهي، سيعيد المتظاهرين معتقدُهم لنقطة البداية في
نهاية كل مطاف ، وها هي إيران قد أوفدت كلبها قاسم سليماني لكربلاء كي
يرتب عملية إطفاء لكل التهم التي وُجّهت إلى نوري المالكي وكي تساهم
المرجعية بدورها المنشود في تكفير المتظاهرين وإعادتهم لبيوتهم "حرصاً على
أمن العراق " وبقية أشكال الذرائع ، لتتكرر نفس القصة وينقلب الربيع
العراقي إلى خريف في غير أوانه.. ترى: هل غادر الشعراء من متردّم ؟